













إن المشهد السياسى فى مصر اليوم فى غاية التعقيد تغيب فيه الرؤية عن كافة الأطراف والقوى والحركات والنشطاء، وهذا طبيعى فى مثل هذه الحالة من السيولة وفى ظل محاولة عدة أطراف السيطرة على الموقف الراهن والمرحلة القادمة. وهذه الحالة من التشوش وإن كانت طبيعية فلها الكثير من المحاذير والمخاطر خاصة وإن كانت أكثر الأطراف تشوشاً هى القوى الثورية التقدمية من حركات ونشطاء فى حين أن القوى الرجعية تدعى وتجاهر بأن لديها خطة حقيقية للتحول الديموقراطى هى فى حقيقتها خطة لإعادة انتاج النظام القديم فى صورة أكثر تقبلاً فى الشارع وفى جوهرها خطة إصلاح بطئ أعوج.
أيضاً فى هذا المشهد يبرز مجلسان، أحدهما يعمل جاهداً على إنهاء الثورة وميلاد الآخر يدشن فعلياً نهايتها. والمجلس الأول هو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهو إن كان يعلن مناصرته للثورة فهو فى فعله وممارساته امتداداً للنظام القديم التى قامت الثورة لتسقطة. إن قولى بأن المجلس العسكرى يعمل جاهداً على إنهاء الثورة ليس محض إدعاء ولا افتراء فهناك العديد من الشواهد والأحداث خلال الستة أشهر الماضية التى تبرهن بما لا يدع مجالاً للشك على هذا. فمنذ اللحظة الأولى للتسلم الغير شرعى للمجلس العسكرى لمقاليد السلطة فى مصر وعلى مدى ستة أشهر والشعب يضغط على المجلس من خلال التظاهر السلمى لتنفيذ أهداف الثورة، والمجلس فى كل الحالات يتباطأ ويمتنع ويماطل ويحمى عمداً النظام القديم ورموزه حتى يصل الضغط الشعبى إلى مدى لا يتحمله فينصاع المجلس العسكرى على غير هوىً. والأمثلة هنا عديدة بدايةً من حكومة شفيق التى كانت تنتمى بكاملها للنظام القديم ومروراً بامتناعه عن محاكمة مبارك وجميع رموز الفساد وإعطائهم متعمداً الفرصة لتهريب وتصريف أموالهم فى الداخل والخارج أكثر من ستين يوماً ونهاية بالدفاع المستميت عن الجهاز القمعى بأركانه الثلاثة من كوادر كبيرة من ضباط الداخلية الفاسدين وجهاز أمن الدولة وجهاز الأمن المركزى ومعارضته الشديدة لأى نوع من التطهير أو إعادة الهيكلة. إن سردى لتلك الحقائق – وإن كنت دوماً أعلمها – يشعرنى بغصة فى حلقى ومرارةً شديدة، فقد وثقنا – فى لحظة من الغباء – بالمجلس العسكرى وآمناه على الثورة والثوار وإذ به يحمى قلاع النظام القديم الخائن ورموزه من الفاسدين فى الوقت الذى يزج فيه بشباب الثورة – بعد تعذيبهم الموثق- فى السجون من خلال محاكمات عسكرية صورية وغير شرعية.
ولكن الركن الأهم فى خطة المجلس العسكرى لإنهاء الثورة والحفاظ على النظام القديم هى خطته للمرحلة الانتقالية فهى تعتمد فى أساسها على دفع الشعب فى عجالة للمشاركة فى ممارسات ديموقراطية شكلية تنهى الحالة الثورية لغالبية الشعب الذى نزل يثور طيلة ثمانية عشر يوماً وتسحب الشرعية ممن تبقى ثائراً بدعوى شرعية نتائج تلك الممارسات الديموقراطية، كما أن الممارسات الديموقراطية المختارة كانت تمعن فى شق الصف بين القوى الوطنية الثائرة وجعلها قوى سياسية غير ثورية، متناحرة غير مترابطة.
وقد كان الاستفتاء هو أولى تلك الممارسات الديموقراطية وقد استخدمت نتائجه فى صبغ شرعية على المجلس العسكرى وقد قيل على دون استحياء أن الشعب قال “نعم” للمجلس العسكرى وأن الشعب نفسه هو من أعطى الشرعية للمجلس وهذا فى مغزاه إبطال للشرعية الثورية وفى مضمونه محاولة لنفى الشرعية عن الثوار. كما قد قسم الاستفتاء – الذى لم يطلبه لا الشعب ولا الثوار – الشعب والقوى الوطنية إلى فريقان وهذا تفتيت لقوى الثورة كان مطلوباً ومستهدفاً.
أما عن الممارسة الثانية والتى تأتى بنا إلى ثانى المجالس فهى الانتخابات والتى ستأتى بمجلس نهاية الثورة، ففى وجود مجلس شعب منتخب تبطل كل دعاوى التظاهر والاعتصام فللشعب وقتها من يمثله ومن يتكلم باسمه ولا يصبح لميدان التحرير معنى، فإن تظاهر البعض حينها سيصطدم ليس فقط برفض المجلس العسكرى ولكن أيضاً بنواب الشعب، فهناك الآن قناة شرعية يمرر منها الشعب مطالبه للسلطة التنفيذيه وتضطلع بمسئولية المراقبة والتشريع، فلم إذاً التظاهر أو الاعتصام أو الإضراب؟ لقد تكلم الشعب واختار ممثليه. وقد يسأل البعض وما السيئ فى ذلك؟ ألم تقم الثورة فى الأساس لكى تأسس للديموقراطية؟ أليس وجود مجلس شعب يقلص من صلاحيات المجلس العسكرى وسلطاته ويخطو خطوة نحو مدنية الدولة؟ وهذا هو المطلوب. وللإجابة على مثل تلك الأسئلة يجب أن نمعن النظر فى العملية الانتخابية ككل وكيف تتم إدارتها ومن يقوم على وله الخبرة فى إدارتها، ولهذا حديث آخر…
More Posts - المزيد من المقالات













