ابتسم بلفور ابتسامة عريضة وهو يسلمهم الوعد، لقد ضمن خروجاً آمناً للعسكر من مستنقع الحرب العالمية الأولي بضمان من التنظيم الدولي للإخوان الصهيونيين، صحيح أنه وعد من لا يستحق بما لا يملك ولكن الضغط شديد في الحرب والخروج الآمن مطلوب، وها هي السنوات تمر والمجلس العسكري البريطاني يسلم الإخوان الصهيونيين مقاليد الحكم على الأرض وها هو الشعب مالك الأرض الذي كان يكافح ضد نظام بريطانيا الفاسد يجد نفسه تحت نير احتلال استيطاني فاشي أسوأ بكثير، نكبة كبرى!!! فأحلام الحرية والتغيير تتبدد والأمل في الكرامة يضيع. ها هم الإخوان الصهاينة يقتربون من حلم ووعد رسلهم بالهيمنة على الدولة، يتمسحون ويتاجرون بالدين ووعود أرض الميعاد وهم عن الدين بعاد.
وبدأ الصهاينة في العمل الحثيث على التمكين، يجب عليهم ليس فقط امتلاك الأرض بالاسم ولكن بالوجود، فأخذوا يطردون أهل الأرض من كل المحليات والمراكز وتوطين إخوانهم فقط في تلك المراكز والأعمال ولكن الشعب قاوم واعترض وتظاهر ولكن الآلة العسكرية الداخلية التي تسلمها الصهاينة من العسكر البريطاني دارت لتقتل وتسحل وتعذب من قال عنهم الصهاينة بلطجية وفلول وهم أهل الأرض وربيعها المأمول.
ولكن هذا كله لا يكفي، يجب أن تصبح السلطة على الأرض بالاسم والوجود والشرعية التعاقدية الدستورية، يجب أن نفرض واقعاً جديداً. واجتمع مكتب إرشاد الجماعة الصهيونية وناقش الجميع هل من الممكن أن نتفاوض مع الشعب الأصلي ونجد صيغة للتواجد السلمي معاً على نفس الأرض؟ هم يريدون التفاوض بشرط الجدية في موقفنا تجاه التعايش المشترك، لنكتب دستوراً عادلاً يحكم علاقاتنا، ويؤسس لحريتنا وكرامتنا جميعاً، هذا مطلبهم. وبالرغم من ميل البعض القليل للموافقة، إلا أن أشطرهم كان حازماً وصارماً، لا مجال للمشاركة، فقط التمكين والمغالبة، حلمنا في دولة صهيونية على كامل الأرض، يجب أن تكون سياستنا دوماً فرض الأمر الواقع على الأرض ثم التفاوض والحوار وأحاديث السلام ولكن طبعاً يجب أن نظهر للعالم أننا نريد الحوار، لندعوهم للحوار ولكن بلا شروط وبلا توقف عن الاستيطان والتمكين، لنكسب بعض الوقت. وسأل أحدهم وكيف إذن نفرض الأمر الواقع؟ وجاءت إجابة أشطرهم واضحة: إن الشعوب تتعاطف معنا بعد دعايتنا التي ضخمنا فيها حجم معاناتنا والجميع يريد أن ينتهي من المشكلة ويريد الاستقرار، فلنذهب للشعوب ونستفتيهم وننتزع قراراً يملكنا الأرض، يكون بمثابة دستور يكفل لنا كل آليات التمكين على تلك الأرض. وقد كان، تم إصدار إعلان غير دستوري بقيام الدولة الصهيونية وذهب المغتصب سريعاً إلى ممثلي الشعوب وفي خلسة من الزمن وفي منتصف الليل وفي مشهد عبثي وافق ممثلوا الشعوب على قرار التقسيم ودستور التمكين.
وثارت ثائرة المناضلين وعن الحرية مدافعين وجيشوا جيوشهم واتحدوا جميعاً تحت راية جيش الإنقاذ وأقسموا ألا يستسلموا وأن يسقطوا الإعلان ويبطلوا قرار التقسيم، دستور التمكين، ولكن هيهات، لقد تمرست عصابات الصهاينة على الحرب أثناء الحرب العالمية الثانية ولديهم من دعم المال والسلاح ما لا ينضب أو ينتهي، أما جيش الإنقاذ فلم يدخل حروباً حقيقية من قبل، لم يكتوي مناضلوها ويتطعموا بخبرات حرب سابقة ولذا فحين أدخلهم الصهاينة في هذه التجربة وهذا الصندوق فقد خسروا الحرب، ومع أن انتصارهم كان بطعم الهزيمة واستخدموا من أجله كل أنواع الحيل والخداع والتزوير وتحالفوا من أجله مع أسلافهم في الاحتلال من الدول الاستعمارية، فإنهم اكتسبوا أرضاً جديدة وأصبح عندهم قراراً ودستوراً يرسخ لطغيانهم وميليشيات على الأرض تحمي دولتهم العنصرية، وفرصة أكبر لنشر إخوانهم في كل بقعة من الدولة وإنشاء مستوطنات داخل أراضيها والتمكن التام من مؤسساتها.
واستمر الاحتلال والاستيطان، إنشاء المستوطنات لا يتوقف وإصدار القوانين بضم أراض جديدة كل يوم وماكينة التمكين تعمل على قدم وساق، ضربة بعد ضربة للحرية واتهام المقاومة المعارضة بالإرهاب والبلطجة، بل أن تحالفهم مع السلف البريطاني سرعان ما نفضوا أيديهم عنه وارتموا في أحضان الأقوياء الحازمون في الولايات المتحدة. وبينما آلتهم القمعية تحصد أرواح الأحرار كل يوم والدماء تسيل من أياديهم في الشوارع فإنهم يخرجون على العالم كل يوم وأمام الكاميرات يتغنون كذباً بتدينهم وديمقراطيتهم وشرعيتهم ويدعون للحوار!!! مرارة وعبث
ولكن حكمائهم لم يقنعوا، لم يكتفوا، شراهتهم للسيطرة والسلطة انفتحت وأصبحت سعاراً لا يشبعه شيء ولا يكفيه إلا كامل السيطرة على الأرض وهم يملكون من دهاء الحيات الكثير وليلاً نهاراً بصورة الحملان لا يملون عن التبشير. ولذا فدأب رئيسهم الكلام المعسول عن المحبة والتعاون والدعوة للسلام والحوار ومشتاقي المناصب يلهثون ورائهم ويعصرون الليمون. ظل الصهاينة على منهجهم ثابتين، فرض أمر واقع فاشي ثم الدعوة للحوار لكسب المزيد من الوقت للتمكن من الأرض، حوار ومراوغة وتضليل وتآمر وغدر وعنف وتقية ودعوة المقاومة للحوار والسلمية!!! وجاءت المؤامرة الكبرى وجاء الوقت للحرب التي اعتقد حكمائهم أنها الفاصلة، حرب تمكنهم مما تبقى من أرض لم تحتل بعد. وفي حين كانت أياديهم تمتد بالسلام ولسان حالهم وجوب التوافق والحوار، كان قادة حربهم مجتمعون وبالخناجر ممسكون يخططون ويقسمون الدوائر على أرض المعركة حتى تكون الحرب سهلة ولا يستطيع أحدأً المنافسة أو المقاومة، اختاروا أرض المعركة وميعادها وكان هذا في ذاته نصف الانتصار ولذا فحين حانت لحظة الهجوم انقضت حشودهم على الدوائر المرسومة وكان الانتصار سهلاً واستحواذهم على الأرض سريعاً، وكانت نكبة أخرى وضربة ظن الطاغية أنها قاصمة.
واستمر احتلال الأرض واستمرت معاناة الشعب، الأرض تئن بمن اغتصبها وترنو لأن تلفظه والشعب يئن من الفقر والطغيان والاستبداد والجوع. ولكن من قلب الهزيمة يولد دائماً الأمل ومن كثرة الأنين والظلم يعظم الغضب والعزيمة على الوصول إلى الحرية، وبالرغم من كل مزاعم النظام الجديد عن الديمقراطية، أدرك الجميع مدى الفاشية، وبالرغم من كل دعاوى الحوار، أدركت المقاومة المعارضة أنه لا مجال لحوار مع مغتصب فاشي ورأى الشعب أنه لا مفر من الصدام. وفي كل ربوع الأرض المحتلة بدأت أعمال المقاومة والعصيان على المحتل، جماعات غير منظمة لا يربطها ببعضها إلا الأمل في حياة كريمة والحرية والعدل، وانطلقت المقاومة التي وقفت يوماً ضد نظام فاسد محتل وأسقطته إلى مقاومة نظام محتل جديد أكثر استبداداً. وبالرغم من الهزيمة السابقة وبرؤية تحرك الشعب الغير منظم، دب الأمل في قوى المقاومة الأكثر تنظيماً وأعادوا بناء جيوشهم وأصروا على استعادة حلمهم وعلى تحرير أرضهم، أرض الفيروز. وفي ظل سكرة الانتصار وفي ظل نشوة التمكين وزهو القوة، تعامى أولاد العم الصهيونيين عن حقيقة أن من وقف أمام بنادق البريطانيين والفرنسيين ليحرر الأرض، لن يهدأ ولن يتوقف ولن يرضى بمحتل جديد. وجاءت الحرب على حين غرة وبعرق ودم وتدريب وتنظيم وجلد تقدم الشعب ولم تصمد أمامه ميليشياتهم ولا خطوط دفاع ولا تسليح، من عمق الهزيمة أتى العبور، إنها فقط طبائع الأمور، الشعوب وإن تحملت الكثير سرعان ما تنتفض تقهر المستحيل، وبعد زمن من الإحباط أتى الانتصار وأتى التحرير.
Deep, sad but hopeful and insightful! Thank you, Kemety!